30.2 C
CASABLANCA, MA.
12 août 2025
ACTUALITÉSFlash InfosMONDEMRESOCIETE

مغاربة العالم: انتماء بلا حدود.. قراءة سوسيولوجية في عمق الارتباط بوطنهم الأصل إقرأ المزيد

رغم ما قد يُروَّج من آراء حول فتور اهتمام بعض مغاربة العالم بزيارة وطنهم الأم، ومحاولة البعض إعطاءها أبعادا سياسية، فإن المعطيات، الإحصائية الرسمية، من جهة، والمعطيات السوسيولوجية والرمزية، من جهة ثانية، تفنّد هذا الطرح، وتُظهر أن العلاقة التي تربطهم بوطنهم تتجاوز مجرد الزيارات الموسمية لتلامس أبعادا هوياتية ووجدانية متجذرة وجب استثمارها.

إن عدم قدرة بعض المهاجرين المغاربة على الزيارة لا يعني بالضرورة تراجع الارتباط بالوطن، بل غالبًا ما تمليه ظروف موضوعية كضغوط العمل، التغيير الحاصل في زيارة المغرب المتواصلة طيلة السنة أو التزامات أسرية في بلدان الإقامة. ومع ذلك، يظل المغرب حاضرًا في وجدانهم اليومي، من خلال اللغة، والعادات، والمناسبات، والتفاعل النشط مع الشأن الوطني عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والجمعيات، والمناسبات الوطنية. وقوة هذا الارتباط العابر للحدود تثبت أن غياب الجسد لا يعني غياب الانتماء، وأن الهوية لا تُقاس فقط بمدى التواجد المادي، بل بعمق العلاقة الشعورية والرمزية المستمرة مع الوطن.

تعطي الأرقام الواقعية المعلنة رسميا حول عملية “مرحبا 2025” صورة مغايرة لما يتم ترويجه من مزاعم العزوف، إد بلغت أعداد الوافدين على المغرب من الجالية المغربية المقيمة بالخارج نحو2.79 مليون شخص حتى 4 غشت 2025، مسجّلة بذلك زيادة بنسبة 10.37%، مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية.

وهذه الأرقام تُثبت بصورة قطعية أننا لسنا أمام ظاهرة عامة يمكن أن تكون محل تأويل سياسي، فكيف بأن تبرر أي حديث عن فتور في الانتماء!

إن الرباط الروحي الذي يشد مغاربة العالم إلى وطنهم متجذر بشكل قوي في نفوسهم؛ يُعبر عنه من خلال استمرار الارتباط الهوياتي عبر التراث، اللغة، المناسبات الاجتماعية، والتفاعل الثقافي والسياسي اليومي عن بُعد… الأمر الذي يؤكد أنه حتى في حالة “غياب الجسد” فذلك لا يعني “غياب أو ضعف الانتماء”.

وهذه الحقائق توضح أن المغرب لا يزال وسيظل حاضرًا في وجدان مغاربة العالم، وأن عمليات العودة الضخمة هي أعظم دليل على ذلك.

لا يمكن الحديث عن الهجرة المغربية دون استحضار الامتداد العاطفي والاجتماعي والسياسي الذي حافظ عليه المهاجرون المغاربة اتجاه وطنهم الأصل، رغم مرور أكثر من قرن على بداية انطلاق مسارها.

لقد انتقل حضور المهاجر المغربي في الفضاء الأوروبي أو الكندي أو الأمريكي أو الافريقي من مجرد عامل اقتصادي إلى فاعل اجتماعي-سياسي يحمل هوية مزدوجة، ويؤسس لمفهوم “المواطنة العابرة للحدود” كما بلورته الأدبيات السوسيولوجية المعاصرة.

وفي هذا السياق، تبرز العلاقة الوثيقة التي لا تنفصم بين مغاربة العالم وبلدهم الأم المغرب، لا فقط من زاوية الحنين أو الارتباط العاطفي، بل بالخصوص كعلاقة ممتدة تتجاوز الحدود الجغرافية منتجة لواقع جديد، ولممارسات اجتماعية وسياسية تتحدى المفاهيم التقليدية للمواطنة والهوية والانتماء.

لقد شكلت الهجرة المغربية، منذ بداياتها الأولى، ظاهرة اجتماعية ذات دينامية مستمرة، غير أن التحولات البنيوية العميقة التي عرفها العالم وعرفتها الهجرة المغربية في حد ذاتها، خاصة خلال العقود الأخيرة، جعلت مغاربة العالم أكثر من مجرد “مهاجرين” بالمعنى التقليدي، بل فاعلون يطوّرون آليات معقدة للتفاعل بينهما. وهذا ما يترجمه سلوكهم اليومي، واختياراتهم الثقافية، وانخراطهم الجمعوي والمدني، وتمثلاتهم السياسية والاجتماعية. فالمواطن المغربي بالخارج لم ينفصل عن وطنه الأصلي، بل أنتج مواطنة تتجاوز الحدود، تقوم على ممارسات جديدة لا ترتبط حصراً بالإقامة الجغرافية، بل بالولاء المتعدد والارتباط الشبكي والهوياتي والثقافي.

فالمواطنة العابرة للحدود (وهي أطروحتي السوسويولوجية للدكتوراه ستنشر قريبا) كما يعيشها مغاربة العالم، ليست مفهوماً مجردا، بل واقعا ملموسا، تؤكده ديناميات جمعوية ومدنية متزايدة تنخرط في قضايا التنمية المحلية بالمغرب، وفي نقل المعرفة والخبرة، وتتبنى خطابا يُعيد الاعتبار للمغرب بوصفه فضاء أصليا للانتماء. كما أن هذه المواطنة لا تُختزل في المشاركة السياسية، بل تشمل تمثلات غنية ومعقدة: وعي سياسي يتخذ أشكالاً متعددة (كالعزوف عن الانتخابات، أو انتقاد السياسات العمومية، والارتباط الوثيق بالثوابت الوطنية ودعم المؤسسات الرمزية)، دون أن يعني ذلك قطع الصلة بالمؤسسات المغربية. على العكس، فحتى في ظل النقد، يستمر الإحساس بالانتماء، وتتواصل العلاقة بالمغرب كثابت هوياتي لا يقبل التنازل.

وقد وقفت بشكل ملموس، خلال دراستي للمواطنة العابرة للحدود، على أن طبيعة العلاقة التي يقيمها مغاربة العالم مع المغرب تختلف حسب الجيل، والجنس، وبلد الإقامة، ومدى التجذر. ومع ذلك، فإن الرابط مع الوطن يبقى حاضرا لدى الجميع، وإن بصيغ متعددة. فالجيل الأول يعبر عنه بالولاء العاطفي والرمزي، بينما تُعيد الأجيال الصاعدة صياغته ضمن هوية مزدوجة أكثر وعياً بالاختلاف الثقافي، ولكن دون التخلي عن المغرب كمكون أساسي في بنية الهوية المركبة. وهذا ما يظهر جليا في الحضور اللافت لمغاربة العالم في المناسبات الدينية والوطنية، وفي الإقبال على تعلم اللغة العربية، والتمسك بالمرجعية الإسلامية المعتدلة وزيارات المغرب، والانخراط في القضايا التي تهمه من بعيد.

إنه من الضروري استحضار السياق العالمي الجديد، الذي يشهد تحولات في مفاهيم السيادة والانتماء والحدود. فالدولة الوطنية لم تعد الفضاء الحصري للمواطنة، بل ظهرت أشكال جديدة من “المواطنة المتعددة”، تتيح للفرد أن يكون منتمياً لفضاءين في آن واحد، دون تناقض. وفي هذا الإطار يندرج النموذج المغربي، حيث سمحت التراكمات القانونية (الاعتراف الدستوري بمغاربة الخارج، فتح المجال أمام مشاركتهم في التنمية والسياسات العمومية…) بإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن، بما ينسجم مع واقع العولمة والانفتاح. ومع ذلك، لا يزال هذا الاعتراف ناقصاً، وهو ما يدفع مغاربة العالم إلى المطالبة بتمثيلية سياسية فعلية، وبإشراك حقيقي في صناعة القرار الوطني.

إن سوسيولوجيا مغاربة العالم تبرز لنا في النهاية أن “الاغتراب” لم يعد نقيض “الانتماء”، بل أصبح شكلا جديدا منه.

لقد استطاع المهاجر المغربي أن يحتفظ بجذوره الروحية والثقافية، وأن يطور شكلا من المواطنة يتحدى النماذج التقليدية، ويُعبّر عن نفسه من خلال الارتباط القوي والمستمر بالوطن، سواء على المستوى الاجتماعي (العلاقات الأسرية والرمزية)، أو الاقتصادي (التحويلات والدعم المباشر)، أو الثقافي (اللغة والدين والرموز الجماعية)، أو حتى السياسي (النقد، المشاركة، التمثيل الرمزي). إنه مواطن عابر للحدود، لا يمكن فهمه إلا من خلال مقاربة مركبة تراعي تعقيد الهوية وتعدد دوائر الانتماء.

وختاما فإن فهم المواطنة العابرة للحدود كما تتجلى في تجربة مغاربة العالم، لا يساهم فقط في تجديد وتعميق النقاش السوسيولوجي حول الهجرة المغربية، بل يفرض على المملكة المغربية بكل مؤسساتها، أن تبني مقاربتها في تدبير ملف هده الفئة من المغاربة باستحضار هذا التحول الجوهري والتفكير في علاقتها بهذه الفئة الحيوية من هده المنطلقات واعتبار حضورها المتواصل لا بوصفها “جالية” أو “أفراداً من أصل مغربي”، بل كمواطنين فعليين في علاقة دائمة، ومتطورة، وفاعلة مع وطنهم الأم.

* الدكتورة نزهة الوفي، وزيرة سابقة مكلفة بالجالية المغربية المقيمة بالخارج إقرأ المزيد :

Articles Connexes

Ce site utilise des cookies pour améliorer votre expérience. Nous supposerons que cela vous convient, mais vous pouvez vous désabonner si vous le souhaitez. Accepter Lire Plus